فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذا كان الشيء المسروق في حوزته فعليه أن يرده إلى صاحبه. وإن كان قد تصرف فيه فعليه أن يأتي لصاحب الشيء ويستحله ويقول له: كنت في غفلة نفسي وفي زهوة الشيطان مني ففعلت كذا وكذا. وأعتقد أن أي إنسان سرق من إنسان آخر وبعد فترة اعترف له وطلب العفو منه فأنا أقسم بالله أنه سيعفو عنه راضيا. وبذلك يستحل الشيء الذي أخذه. لكن ماذا إن كان السارق لا يعرف صاحب الشيء المسروق. كلص الأتوبيسات؟
إن كان قد سرق محفظة نقود من شخص ووجد العنوان يستطيع أن يرد الشيء المسروق بحوالة بريدية من مجهول تحمل قيمة المبلغ المسروق ويطلب فيها السماح عن السرقة. وإن لم يعرف من سرقة فعليه أن يقول: الله أعلم بصاحب هذا المبلغ وأنا سأتصدق به في سبيل الله وأقول: يا رب ثوابه لصاحبه.
إذن فوجوه الإصلاح كثيرة. وإن كان يخجل من رد الشيء المسروق فليقل: فُضُوح الدنيا أهون من فُضُوح الآخرة. وفي القرآن تأتي آيات كثيرة عن التوبة: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} [التوبة: 118].
كأن توبة الله مكتوبة أولا؛ ثم يتوب العبد من بعد ذلك. وسبحانه يقول: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} [طه: 82].
وللتوبة- كما نعلم- ثلاث مراحل. فالحق حين شرع التوبة كان ذلك إذنًا بها. وبعد ذلك يتوب العبد، فيتوب الله عليه ويمحو عنه الذنب ويكون الغفران بقبول الله للتوبة. ولذلك يقول الحق: {فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وَصِفَةُ المغفرة وصِفَةُ الرحمة كل في مطلقها تَكُون لله وحده، وهي توبة للجاني ورحمة للمجني عليه. وكلمة {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} توضح لنا أنه سبحانه له طلاقة القدرة في أن يغفر وأن يرحم. فإياك أن تقول: إن فلانا لا يستحق المغفرة والرحمة؛ لأنه سبحانه مالك السماء والأرض، وهو الذي أعطى للبشر ما يستحقون بالحق الذي أوجبه على نفسه، وله طلاقة القدرة في الكون. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)}.
أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمر «أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعت يدها اليمنى. فقالت: هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال: نعم، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك، فأنزل الله في سورة المائدة {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم}».
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه} يقول: الحد كفارته.
وأخرج عبد الرزاق عن محمد بن عبد الرحمن عن ثوبان قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل سرق شملة، فقال: ما أخاله سرق أو سرقت؟ قال: نعم. قال: اذهبوا به فاقطعوا يده ثم احسموها ثم ائتوني به، فأتوه به فقال: تبت إلى الله؟ فقال: إني أتوب إلى الله. قال: اللهم تب عليه.
وأخرج عبد الرزاق عن ابن المنكدر أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع رجلًا ثم أمر به فحسم وقال: تب إلى الله، فقال أتوب إلى الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن السارق إذا قطعت يده وقعت في النار، فإن عاد تبعها، وإن تاب استشلاها، يقول: استرجعها». اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} الجارُّ والمجرور في قوله: {مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} متعلِّقُ بـ {تاب} و«ظُلْم» مصدرٌ مضافٌ إلى فاعله، أيْ: مِنْ بعد أنْ ظلمَ غَيْرَهُ بأخْذِ ماله.
وأجاز بعضُهم أنْ يكونَ مُضافًا للمفعولِ، أيْ: مِنْ بعد أنْ ظلم نَفْسَهُ، وفي جوازِ هذا نَظَرٌ؛ إذْ يصيرُ التقديرُ: مِنْ بَعْد أنْ ظلمه، ولو صرَّحَ بهذا الأصل لم يجز؛ لأنَّهُ يؤدِّي إلى تَعَدِّي فعل المضمرِ إلى ضَمِيره المتصلِ، وذلك لا يجوزُ إلا في بابِ: «ظَنّ وفَقَدَ وعدِمَ»، كذلك قاله أبُو حيان.
وفي نظرِه نَظَرٌ؛ لأنَّا إذا حللنا المصدر لحرفٍ مَصْدرِيٍّ وفِعْلٍ، فإنَّما يأتِي بعد الفعلِ بما يَصِحُّ تقديرُه، وهو لفظُ النَّفْسِ، أيْ: مِنْ بَعْد أنْ ظَلَمَ نَفْسه. انتهى. اهـ.

.تفسير الآية رقم (40):

قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان معنى ذلك أنه لا اعتراض عليه سبحانه في شيء من ذلك ولا مانع، لأن قدرته تامة، ليس هو كمن يشاهد من الملوك الذين ربما يعجزون من اعتراض أتباعهم ورعاياهم عن تقريب بعض ما لم يباشر إساءة، وإبعاد بعض من لم يباشر إحسانًا، فكيف بغير ذلك! قال تعالى مقررًا لذلك بتفرده في الملك: {ألم تعلم أن الله} أي الذي له جميع العز: {له ملك السماوات} أي على علوها وارتفاع سمكها وانقطاع أسباب ما دونها منها {والأرض} أي أن الملك خالص له عن جميع الشوائب.
ولما كان إيقاع النقمة أدل على القدرة، وكان السياق لها لما تقدم من خيانة أهل الكتاب وكفرهم وقصة ابنيّ آدم والسرقة والمحاربة وغير ذلك، قدم قوله معللًا لفعل ما يشاء بتمام الملك لا بغيره من رعاية لمصالح أو غيرها: {يعذب من يشاء} أي من بني إسرائيل الذين ادعوا النبوة والمحبة وغيرهم وإن كان مطيعًا أي له فعل ذلك لآنه لا يقبح منه شيء {ويغفر لمن يشاء} أي وإن كان عمله موبقًا، لأنه لا يتصور منه ظلم ولا يسوغ عليه اعتراض.
ولما كان التقدير: لأنه قادر على ذلك، عطف عليه قوله: {والله} أي الذي له الإحاطة بكل كمال {على كل شيء} أي شيء {قدير} أي ليس هو كغيره من الملوك الذين قد يعجز أحدهم عن تقريب ابنه وتبعيد أعدى عدوه، وهذه القضية الضرورية ختم بها ما دعت المناسبة إلى ذكره من الأحكام، وكرَّ بها على أتم انتظام إلى أوائل نقوض دعواهم في قوله: {بل أنتم بشر ممن خلق} [المائدة: 18]. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما أوجب قطع اليد وعقاب الآخرة على السارق قبل التوبة، ثم ذكر أنه يقبل توبته إن تاب أردفه ببيان أن له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء، وإنما قدم التعذيب على المغفرة لأنه في مقابلة تقدم السرقة على التوبة.
قال الواحدي: الآية واضحة للقدرية في التعديل والتجويز، وقولهم بوجوب الرحمة للمطيع، ووجوب العذاب للعاصي على الله، وذلك لأن الآية دالة على أن الرحمة مفوضة إلى المشيئة والوجوب ينافي ذلك.
وأقول: فيه وجه آخر يبطل قولهم، وذلك لأنه تعالى ذكر أولًا قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والارض} ثم رتب عليه قوله: {يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} وهذا يدل على أنه إنما حسن منه التعذيب تارة، والمغفرة أخرى، لأنه مالك الخلق وربهم وإلههم، وهذا هو مذهب أصحابنا فإنهم يقولون: إنه تعالى يحسن منه كل ما يشاء ويريد لأجل كونه مالكًا لجميع المحدثات، والمالك له أنه يتصرف في ملكه كيف شاء وأراد: أما المعتزلة فإنهم يقولون: حسن هذه الأفعال من الله تعالى ليس لأجل كونه إلها للخلق ومالكًا لهم، بل لأجل رعاية المصالح والمفاسد، وذلك يبطله صريح هذه الآية كما قررناه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} الآية.
خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره؛ أي لا قرابة بين الله تعالى وبين أحد توجب المحاباة حتى يقول قائل: نحن أبناء الله وأحباؤه، والحدود تقام على كل من يقارف موجب الحدّ.
وقيل: أي له أن يحكم بما يريد؛ فلهذا فرّق بين المحارب وبين السارق غير المحارب.
وقد تقدّم نظائر هذه الآية والكلام فيها فلا معنى لإعادتها والله الموفق. اهـ.

.قال السمرقندي:

{ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ الله لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} يعني: خزائن السموات والأرض، يعني: خزائن السموات المطر، وخزائن الأرض النبات.
ويقال: {لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض} يحكم فيها ما يشاء، {يُعَذّبُ مَن يَشَاء} إذا أصرّ على ذنوبه، {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} إذا تاب ورجع، ومعناه: أن السارق إذا تاب، ورد المال لا يقطع ويتجاوز عنه، وإن لم يتب قطعت يده.
ألا ترى أن الله تعالى قال: {لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض يُعَذّبُ} إذا لم يتب ويتجاوز إذا تاب، فافعلوا أنتم مثل ذلك، لأن الله تعالى مع قدرته يتجاوز عن عباده، وهو قوله: {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} من المغفرة والعذاب. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ويَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} فيه تأويلان:
أحدهما: يغفر لمن تاب من كفره، ويعذب من مات على كفره، وهذا قول الكلبي.
الثاني: يعذب من يشاء في الدنيا على معاصيهم بالقتل والخسف والمسخ والآلام وغير ذلك من صنوف عذابه، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتوبة واستنقاذهم بها من الهلكة وخلاصهم من العقوبة. اهـ.

.قال الخازن:

قوله عز وجل: {ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض}.
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به جميع الناس وقيل معناه، ألم تعلم أيها الإنسان فيكون الخطاب لكل فرد من الناس أن الله له ملك السموات والأرض، يعني أن الله مدبر أمره في السموات والأرض ومصرفه وخالق من فيها ومالكه لا يمتنع عليه شيء مما أراده فيهما لأن ذلك كله في ملكه وإليه أمره {يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء}.
قال ابن عباس: يعذب من يشاء على الصغيرة ويغفر لمن يشاء على الكبيرة وقيل يعذب من يشاء على معصيته وكفره بالقتل والقطع وغير ذلك في الدنيا، ويغفر لمن يشاء بالتوبة عليه فينقذه من الهلكة والعذاب وإنما قدم التعذيب على المغفرة، لأنه في مقابلة قطع السرقة على التوبة.
وهذه الآية فاضحة للقدرية والمعتزلة في قولهم بوجوب الرحمة للمطيع والعذاب للعاصي لأن الآية دالة على أن التعذيب والرحمة مفوضان إلى المشيئة والوجوب ينافي ذلك وجواب آخر وهو أنه تعالى أخبر أن له ملك السموات والأرض والمالك له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء وأراد لا اعتراض لأحد عليه في ملكه يؤكد ذلك قوله: {والله على شيء قدير} يعني أنه تعالى قادر على تعذيب من أراد تعذيبه من خلقه وغفران ذنوب من أراد إسعاده وإنقاذه من الهلكة من خلقه، لأن الخلق كلهم عبيده وفي ملكه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء}.
لما ذكر تعالى تصرفه في أحكام المحاربين وأحكام السرّاق، ولم يحاب ما ذكر من العقوبات عليهم، نبه على أن ذلك هو تصرف في ملكه، وملكه لا معقب لحكمه، فيعذب من يشاء عذابه وهم المخالفون لأمره، ويغفر لمن يشاء وهم التائبون.